المادة    
هنا تكون نقطة التقاء، بمعنى: أن الأطروحات التي يطرحها ميخائيل جورباتشوف للاتحاد السوفيتي، وينادي بها الذين أحدثوا الثورات المتلاحقة في أوروبا الشرقية لا تتغير كثيراً عما ينادي به ويطرحه كثير من رؤساء الأحزاب الشيوعية والاشتراكية في أوروبا الغربية.
  1. حقيقة جرباتشوف

    إن من يتتبع تاريخ هذا الرجل جورباتشوف يجد أنه قد رُبي بعناية، وقد أخرج وأبرز بعناية من الحزب الشيوعي نفسه وليس فقط -كما يرى البعض- أنه أبرز برعاية الغرب الرأسمالي، وذلك أن عملية إعادة البناء قد بدأت -في الحقيقة- في أيام يوري أندربوش، بل بيرجنيف بنفسه وهو الرجل المتصلب على حرفية الشيوعية كان يشارك في كثير من نقاط العملية، وقد أسهم إلى حدٍ ما في إبراز جورباتشوف، فرجل شاب نشط صاحب مواهب هُيئ من أجل أن يقوم بهذا الدور الخطير، الذي يمكن أن يؤدي إلى نتائج كُبرى في تاريخ الفكر والسياسة العالمية.
    هيئت جميع السبل أمام جورباتشوف ليصبح زعيماً عالمياً عن دراسة من الحزب، فهو ليس رجلاً مستبداً متسلطاً أتى ليحكم -وإن كان ذلك ليس بغريب على الاتحاد السوفييتي- ولكن كان هناك إعداداً، من السلطة القوية للحزب، وكذلك الفروع يستحيل معها أن يأتي رجلٌ بمجرد أنه مستبد وخارج عن الحزب خروجاً كلياً، فيصل إلى أن يكون رئيساً للحزب ورئيساً للدولة في وقتٍ واحد، وهذا ما يُفسر أن الارتياح الغربي لوجوده يقابل بالشكوك، وبعض التحليلات الغربية ترى أنه قد يفشل، وبعضهم يرى أنه قد ينتهي، وبعضهم يتفاءل، وبعضهم يتمنى أن يطول هذا الأمد وهذا الحلم ليرى ما هي النتيجة التي سوف تنكشف عنها هذه المغامرة.
  2. أثر الوحدة الغربية على الاتحاد السوفيتي

    نجد أن بعض الأمور أو الخطوات العملية -وهي التي أختصر لكي أصل إليها- وهي التي تهمنا نحن المسلمين أكثر فأكثر، فقد ظهرت وبرزت منذ عملية إعادة البناء التي نادى بها جورباتشوف.
    من ذلك: أن أوروبا الغربية مقبلة على اتحاد، وأن تكون برلماناً واحداً، وأن يكون لها وجود وكيان اقتصادي واحد، والدول المتفقة على هذه الوحدة يبلغ مجموع سكانها (325) مليون، وهي بذلك تصبح أقوى بشرياً من أكبر تجمع غربي قائم الآن، وهو الولايات المتحدة الأمريكية فيصبح هناك ولايات أوروبية متحدة أكبر وأقوى بشرياً من الولايات المتحدة الأمريكية، وينتج عن ذلك سيطرة اقتصادية أكبر، ووقوف في وجه المنافسة مع أمريكا ذاتها أو مع اليابان أو غيرها.
    هنا لا بد أن يقف الاتحاد السوفييتي في موقفٍ حرج للغاية أمام الانهيار الذي يُعاني منه اقتصادياً وعلمياً، والانهيار الاقتصادي الذي يعاني منه هو أحد الأسباب التي يُركز عليها جورباتشوف في كتاباته وفي محاضراته وفي لقاءاته عن عملية إعادة البناء، وهناك حادثتان للتمثيل عن ذلك:
    الحادثة الأولى: حادثة الإشعاعات النووية التي تسربت من تشر نوبل وهي -كما تعلمون- قد أثبتت عجز الاتحاد السوفييتي عن مقاومة أو تدارك أخطار هذه الإشعاعات.
    الحادثة الثانية: حادثة زلازل أرمينية حيث عجزت الطاقة السوفييتية عن ملاحقة ومتابعة الحادث، مما اضطرهم إلى الاستعانة بالدول الغربية، سواء بانتشال الجثث، أو إيواء المشردين، بالإضافة إلى النقص الهائل في المواد الغذائية كالقمح والسكر وغير ذلك.
    فكيف سيكون حال الاتحاد السوفييتي لو أن أوروبا وهي مقبلة على التوحد توحدت فعلاً؟! وأوروبا الشرقية إنما تعيش على معونات الاتحاد السوفييتي، والأحزاب والدول الشيوعية في العالم إنما تعيش على مساعدات الاتحاد السوفييتي؛ إذاً كيف سوف يكون هذا الوضع في حالة توحد أوروبا الغربية؟!
    وبالتأكيد فـ الولايات المتحدة الأمريكية بهيمنتها العسكرية سوف تربطها بـأوروبا أقوى الروابط، ومعنى ذلك أن تجمعاً أوروبياً غربياً يشكَّل ويؤلَّف بإرادة ستمائة مليون أو أكثر، سيكونون قوةً كبرى سياسياً واقتصادياً تواجه الاتحاد السوفييتي، ومن هنا فإن جورباتشوف يعتبر أن عملية إعادة البناء هي في حقيقتها إنقاذ للاتحاد السوفيتي، وإنقاذ للشيوعية عموماً من الانهيار والاضمحلال.
  3. أثر وحدة الغرب على العالم الإسلامي

    طلب الرئيس جورباتشوف من مجلس الأمن القومي الأوروبي أن يعجل تاريخ انعقاده وأن يدخله الاتحاد السوفييتي، فدول أوروبا الشرقية بعد أن تخلت عن الشيوعية الشكلية الرسمية المباشرة، أصبحت موسكو في حل من الالتزامات الاقتصادية والمالية تجاهها، وأصبح العالم الغربي يرى نفسه مرغماً أو ملزماً أدبياً بمساعدة هذه الدول؛ لأنها اتجهت إلى الديمقراطية، ومن جهة أخرى ليؤسس مؤسسات اقتصادية داخل هذه الدول.
    ومقابل ذلك الاتحاد السوفييتي بقي الوحيد خارج هذا النطاق، ولذلك يرى كما طلب جورباتشوف تعجيل مؤتمر الأمن القومي الأوروبي، وأن يدخل الاتحاد السوفييتي ويشترك في هذا المؤتمر، ولو تم ذلك -والأمر يُرتب له- فسوف يصبح قوة أوروبية هائلة.
    بمعنى أنه سوف تصبح أوروبا شرقها وغربها متحدة إلى حدٍ ما إن لم يكن اتحاداً كلياً -كما هو الآن مشاهد في أوروبا الغربية- فسيكون اتحاداً اقتصادياً، واتحاداً في كثير من المواقف السياسية والعملية، وسيترتب على ذلك خطرٌ داهم للعالم كله وبالذات على العالم الإسلامي، وهو العدو الوحيد المستهدف من الشرق والغرب دائماً.
    الاتحاد السوفييتي يسكنه ما يقارب (280) مليون نسمة، والدول التي تدور في فلكه مع الدول الأخرى التي سوف تدور في فلك (الستمائة مليون) الذين يُكونون أوروبا الغربية وأمريكا، معنى ذلك كما هو واضح أن قوة بشرية تعدادها أكثر من (ألف مليون) سوف تكون موحدةً إلى حدٍ ما وبشكل ما من أشكال الاتحاد، وسوف يدفع ثمن هذا التوحد هو العالم الإسلامي!
    فهذا التوحد صليبي بلا ريب؛ لأن أكثر الدول حرباً للأديان وهي روسيا قد أعلن جورباتشوف إحياء القيم الروحية فيها، واحتفل بمناسبة بلوغ ألف سنة على إنشاء الكنيسة الكاثوليكية.
    جورباتشوف بنفسه زار البابا في الفاتيكان وهي أغرب زيارة في العالم، لم يخطر على بال أحد أن يزور رئيس الدولة الإلحادية الكبرى زعيم العالم الروحي -كما يسمى- النصراني، وثورة بولندا باعتبار أن البابا بولندي الأصل أيضاً كانت تُبارِك من قبل البابا، وهي أول شرارة تفجرت في أوروبا الشرقية.
    إذاً: ألف مليون -على الأقل- يتوحدون توحداً صليبياً، وهم يُشكلون أقوى قوة عسكرية في العالم بلا ريب، لأن القوة التي تضم أوروبا الغربية مع الولايات المتحدة الأمريكية مع القوة السوفييتية لن يكون هناك أقوى منها.
    وعندما كانت الحرب سواءً كانت الحرب الباردة أو الساخنة، كان العالم في معسكرين مختلفين، كان هناك ما يمكن أن يستفاد منه من التناقضات الدولية بالنسبة للعالم الإسلامي، أما لو توحدت القوتان العظيمان، فإن العالم الإسلامي سيجد نفسه أمام أبوابٍ موصدة، إما أن يقاوم أو أن يستسلم، فهو أكبر منطقة يحرص الطامعون من الشرق والغرب عليها، بالإضافة إلى الحقد التاريخي القديم.
  4. أمثلة من توحد الغرب على العالم الإسلامي

    ونضرب مثالاً واحداً: قضية أفغانستان وهي القضية الحساسة المهمة جداً بالنسبة لنا نحن المسلمين، تأثرت بهذا التقارب الدولي العالمي تأثراً كبيراً، ولذلك أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي معاً الموافقة على إعادة الملك ظاهر شاه إلى حكم أفغانستان، وإجراء انتخابات، واتفقت الدولتان.
    في حالة اختلافهما قد يكون هناك مدخل أو مبرر للمجاهدين في الدخول في اللعبة الدولية بنوع من الدراسة التي قد تُعطي بعض النتائج، لكن في حالة الاتفاق لا شك أن الموقف سيكون أصعب، والمواجهة ستكون أشد بالنسبة للمسلمين، وهذا مثال واحد وغيره كثير.
    وهناك مثال واضح جداً لا يكاد يمر يوم إلا وتسمعون عنه وتقرءون عنه: وهو أن من إثبات حسن النوايا لدى جورباتشوف عموماً وأوروبا الشرقية خصوصاً، أنهم بادروا لإقامة العلاقات مع إسرائيل، بل الهجرة اليهودية من الاتحاد السوفييتي ومن أوروبا الشرقية إلى إسرائيل وأصبحت من الموضوعات الأساسية، وقد ناقشها جورباتشوف وبوش في مؤتمر مالطا، وأصبح واضحاً جداً، وقد اشتكى المسلمون واشتكى العرب، واشتكت منظمة التحرير من هذه الظاهرة، وهي هجرة اليهود من الاتحاد السوفييتي.
    وقد نشرت دول أن الذين هاجروا من الاتحاد السوفييتي أكثر من (ثلاثة وسبعين ألف) يهودي، وهم طبقة مثقفة ونوعية معينة، وسوف تقام لهم مستوطنات، وسوف يكون ذلك على حساب السكان المسلمين الأصليين، الذين سوف يتزايد عليهم العبء ويتضاعف، ولا سيما مع التناقص العددي الرهيب والشديد الذي يقع الجهاد الفلسطيني فريسة له، إذ كل يوم يخسر أعداداً بشرية، حيث إن حالات الإجهاض التي تمت منذ قيام الانتفاضة أكثر من (ثلاثمائة ألف) حالة، ومعنى ذلك أن هناك إصراراً وتعمداً للاضمحلال البشري بالنسبة لسكان الأرض المحتلة الأصليين، وإحلال أولئك اليهود الشرقيين والسوفيتيين محلهم، وهذا -أيضاً- أحد المؤشرات الأولية، وما تزال الأمور في بدايتها.
    وأمام هذا نقول: إن الخلاف بين الغرب والشرق مهما قيل عنه فإنه يظل محدوداً، ولا سيما أن أرض الواقع فرضت ذلك، والواقع أن الدول الغربية قد أسهمت كثيراً في تأمين العمال وترفيههم، وفي مشاركاتهم في الشركات والمؤسسات.
    بمعنى أنها قطعت كثيراً من الطرق التي يمكن أن تتسرب منها الشيوعية الماركسية للتطوير والتغيير الكلي، وبنفس الوقت: فإن روسيا تراجعت في كثير من أمورها عن التطبيق الحرفي للماركسية، وأصبحت توائم وتوازن بين الملكية الفردية والملكية الجماعية، وأصبحت النظرة المتفق عليها بين كلا المعسكرين هي إيجاد القوة الاقتصادية لشعوبها، وتأخر إلى حدٍ ما موضوع العقيدة أو الأيديولوجية أو المبدأ أمام الضغط الاجتماعي والضغط الاقتصادي.
    فإذا أضيف ذلك إلى أن الكفار وأوروبا جميعاً موحدة نفسياً وتاريخياً ضد الأمة الإسلامية، فسوف يبرز للعالم الإسلامي هذا العدو الجديد، وهو عملاقٌ ضخم لا يمكن أن يقاوم إلا بقوة تقوم في هذه الأمة، وهي -والحمد لله- تملك ذلك، لكن يحتاج إلى مقاومة ليست كأي مقاومة، ونحن نؤكد: أن النصر للإسلام، وأن الغرب مهما تجمَّع ومهما توحد فإنه مخذول بإذن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.